mercredi 16 février 2011

مدبّرو المحاولة الانقلابية سنة 1962: لغز التعجيل بالمحاكمة وتنفيذ الأحكـــــــــام

الظاهر أيضا أنّ هذه المجموعة الانقلابية خاصّة المدنية منها قد قامت باتّصالات مع قوى خارجية قصد الحصول على تأييدها، لكن آثرت المحكمة العسكرية أن يتمّ التطرّق إلى هذه المسألة في جلسة سرّية،
وقد تحدّث المناضل علي المعاوي عن بعض هذه الاتصالات في كتابه «خواطر وذكريات» كما أقرّ الشيخ الرحموني بوجود هكذا اتّصالات، ومن المرجّح أنّ التركيز كان على المعارضة التونسية المستقرّة آنذاك في الجزائر ابراهيم طوبال وعبد العزيز شوشان الذي ينتمي إلى ذات بلدة عمر البنبلي وهي القلعة الكبرى كما أنّ طوبال يعرف البنبلي منذ مدّة طويلة في مصر، وذلك بقصد الحصول على دعمهما ولربّما دعم الجزائر لاحقا وكذلك مصر....


وقد استغلّ الحبيب بورقيبة هذه المحاولة الانقلابية ليطلب من الجزائر في خطاب 18 جانفي 1963 طرد المعارضين التونسيين من أراضيها وسَحَب السفير التونسي أحمد المستيري من هناك. ولم يتوان الرئيس أحمد بن بلّة في تفنيد ما أعلنه الرئيس الحبيب بورقيبة مذكّرا بأنّ الجزائر لا يمكنها أن تفكّر أبدا في القيام بعمل ما ضدّ الشعب التونسي.
من الاعتقال إلى الإعدام: سرعة تنفيذ غير مسبوقة
على كلّ، ما لفت انتباهنا نحن في كلّ هذا هو السرعة الفائقة التي تمّت فيها عملية الاستنطاق والمحاكمة فإصدار الأحكام، إذ بدأت الاعتقالات مساء يوم 19 ديسمبر وأعلن رسميا عن المؤامرة يوم 24 ديسمبر وبدأت المحاكمة يوم 12 جانفي 1963، والتهم الموجّهة هي التآمر على أمن الدولة الداخلي ومحاولة الاعتداء على رئيس الدولة ومحاولة تبديل هيئة الدولة ..والمشاركة في حركة تهدف إلى تحطيم معنويات الجيش الوطني والاستيلاء على أملاك الدولة، لتنتهي يوم 17 منه بصدور الأحكام القاضية بإعدام كلّ من عبد العزيز العكرمي والشيخ أحمد الرحموني والحبيب حنيني والهادي القفصي والأزهر الشرايطي وعمر البنبلي وصالح حشاني ومحمّد بركية ومحمّد قيزة والمنصف الماطري وعبد الصادق بن سعيد والمسطاري بن سعيد الذي هرب إلى الجزائر، بينما نال كلّ من البراطلي وساسي بويحيى الأشغال الشاقة المؤبّدة وتميم بن كامل وعلي كشك بن سالم وقدور بن يشرط والعربي العكرمي وأحمد التجاني 20 سنة أشغالا شاقة وعلي القفصي 10 سنوات....
وفي يوم 22 جانفي 1963 رفضت محكمة التعقيب الطعون التي قدّمها إليها بعض المتّهمين وأيّدت حكم المحكمة العسكرية الدائمة بتونس، وفي 23 منه رفض الحبيب بورقيبة مطالب العفو التي قدّمها محامو المتّهمين، وفي 25 جانفي صدر بيان في الصحف يعلن عن إعدام المتّهمين فجر يوم 24 جانفي مع استثناء المنصف الماطري ومحمد قيزة بعد إبدال حكمهما من الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبّدة. 
حرمان المتّهمين من محاكمة عادلة!
وهكذا أُسدل الستار على هذه المحاولة أو أُريد لها هكذا في مدّة زمنية وجيزة قياسية، لم تتعدّ الشهر من تاريخ الإعلان عن المؤامرة إلى تاريخ تنفيذ أحكام الإعدام، ومن البديهي، أنّ الملاحظ العادي يمكنه أن لا يعتبر ظروف الاستنطاق الاستثنائية من حيث الوسائل المتّبعة فيه ولا جلسات المحكمة التي تواصلت لمدّة ستّة أيّام! ولا رفض محكمة التعقيب اللامبرّر لطعون المتّهمين من عِدَاد المحاكمة العادلة التي احترمت مبادئ القانون.. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الحملات التشويهية والتأليبية على المتّهمين طيلة هذه الفترة وتصرّفات المحامين كما رئيس المحكمة الذي كان يذكّر المتّهمين بـ»عقوقهم» الوطني و..فإنّ ذلك كلّه لن يساهم أصلا في توفير أجواء عادية لمحاكمة أُريد لها أن تكون استثنائية في كلّ شيء.
والظاهر أنّ التعليمات صدرت من الحبيب بورقيبة كي يقع الانتهاء من كلّ شيء قبل يوم 18 جانفي 1963، حتّى يتسنّى له الاحتفال بالنصر على «أعداء» الوطن الداخليين والخارجيين في التحام متجدّد مع شعبه الذي زحف في جموع هدّارة في ذلك اليوم إلى ساحة القصبة للانتشاء مع رئيسه بالمعجزة الإلهية التي أنقذت تونس من شرّ مستطير وساقت «الخونة» إلى موتهم المحتوم! ! 
فرضية التورّط على أعلى مستويات الحكم؟!
لكن، ألا يمكن أن تخفي هذه السرعة الكبرى في طيّ ملفّ «المؤامرة» أمرا آخر قد يكون مُحرجا للسلطة وللرئاسة على حدّ السواء؟ وهو احتمال أن تكون عناصر من داخل الحكومة على علاقة ما مع «المتآمرين»، حَمَتْهم في انتظار تجسيم العملية بالرغم من ورود تقارير لا يشكّ في صدقيتها عن تحرّكاتهم، أُهملت عن قصد أو عن غير قصد لا ندري! المهمّ أنّ إدارة أمن الدولة والداخلية التونسية عجزتا عن كشف تحرّكات هذه المجموعات «البدائية» بالرغم من ورود تقارير في الغرض.. والمهمّ في كلّ هذا أنّه تقرّر يوم 7 جانفي 1963 إقصاء إدريس قيقة من إدارة الأمن وتعويضه بالباجي قايد السبسي، فهل أنّ عزل قيقة هو بمثابة «كبش فداء» لمسؤول آخر قد يكون «متواطئا « مع «المتآمرين» ربّما لوحده أو ثمّة من معه من المسؤولين، واقتُرح اسمه في الحكومة التي كان «المتآمرون» يزمعون على تشكيلها بل وتربطه علاقات حميمية للغاية مع بعضهم، ونعني هنا ربّما الطيّب المهيري- الذي لم تتوصّل أجهزته الأمنية إلى هتْك هذه المؤامرة في حين يعود الفضل في ذلك إلى الشرطة العسكرية- لكن إعلان توريطه المحتمل قد يُربك توازنات الحكم الهشة في ظرف حرج للغاية، لذلك أُسرع في كلّ شيء وحتى عندما ذكر المتآمرون أسماء أخرى على صلة بهم، لم تستدعهم المحكمة ولم نسمع بهم أو نلاحظ أنّهم اعتقلوا لاحقا خاصّة داخل الجيش والنخب السياسية.
حقيقة إتلاف وثائق المؤامرة من عدمها؟!
وممّا يحيّرني أكثر ويدفعني لعدم نفي ما ذكرناه آنفا بخصوص تورّط محتمل لمسؤولين في الحكم، هو ما تطرّق إلى علمي من أنّ كلّ الوثائق المتعلّقة بالمؤامرة قد أتلفت في حينها، وبالتالي، إن صحّت هذه المزاعم، لا يمكن لنا وللأجيال القادمة أن ندرك حقيقة ما حدث إذّاك عندما يفتح الأرشيف وإنّي أرجو من كلّ قلبي أن يكون كلامي هذا مجرّد خيال وكذبة.
«المؤامرة» فرصة للتخلّص من المقاومين!
والأكيد أنّ هذه المحاولة «الانقلابية» الفاشلة كانت مناسبة للدولة التونسية كي تتخلّص وإلى الأبد من أناس باتوا يشكّلون عبئا عليها، ونعني هنا قادة المقاومين بدءا من الشرايطي والعربي العكرمي والساسي بويحيى والساسي الأسود وخاصّة هنا الشيخ حسن العيّادي الذي حُشر حشرا في تبعات هذه المؤامرة، واتُهم بأنّه كان على علم بها وحوكم في محكمة على جناح السرعة وصدر عليه حكم بالإعدام نفّذ على عجل، بالرغم من خدماته الجليلة التي قدّمها للنظام البورقيبي الناشئ بدءا بمآسي «صبّاط الظلام» الدامية وغيرها، لكن ما العمل؟ ما دام العيّادي بات محرجا للغاية للبعض!؟ أليس ثمّة أفضل من هذه المناسبة للإجهاز عليه كي يذهب هو وما يعرفه من أسرار إلى القبر؟!
لكن ثمّة مسألة أخرى تتعلّق بأصول بعض المتورّطين في هذه «المؤامرة»، فمثلما ذكرنا آنفا صوّرتهم الدعاية الرسمية آنذاك على أنّهم «جراثيم» يوسفية وبقايا الرجعية والاستعمار و«جهلة مغرورين»..وهذا حتى ما يعتقده السفير الفرنسي في تونس في تقريره إلى وزير الخارجية الفرنسي بتاريخ 19 جانفي 1963 والذي خصّصه للحديث عن المحاكمة والأحكام، إذ اعتبر أنّ نواة التآمر يوسفية كما ذهب إلى ذلك الباهي الأدغم.
نواة التآمر الصلبة من الدستور القديم!
وإنّي أعتقد أنّ نواة التآمر الصلبة هي من الدستور القديم أو بقايا الدستور القديم أو من المتعاطفين الموضوعيين معهم، وأعني هنا الشيخ أحمد الرحموني الذي يعدّ من عناصر الحزب النشطة بل ونجده عضوا في لجنته التنفيذية لسنة 1955 بالرغم من أنّه سيحشر ويحاكم في المؤامرة اليوسفية لسنة 1958 ويُسجن بمقتضاها، والهادي القفصي الذي ينتمي إلى عائلة وأب معروفيْن بانتمائهما إلى الدستور القديم، وعمر البنبلي الذي أعتقد أنّه كانت لديه ميولات للدستور القديم كما هو بارز في كتاب له أصدره في لبنان وكما تؤكّد ذلك المصالح الفرنسية في الشرق، ولا أدري حقيقةً إن كان عمر البنبلي قد اعتنق أفكار البعث السوري أم لا؟ بالرغم من احتمال ورود ذلك! والزيتوني عبد العزيز العكرمي أحد مؤسّسي لجنة صوت الطالب الزيتوني، الذي يلتقي موضوعيا مع طروحات الرحموني، إضافة إلى دستوريين جدد بعضهم تبنّى اليوسفية خلال الخلاف وبعضهم الآخر تبنّى البورقيبية.
«خانوا» الوطن أم بورقيبة؟
فهل كلّ هؤلاء «خونة» ؟ «خونة» الوطن! انقلبوا بين عشيّة وضحاها من خانة الوطنية والإخلاص الوطني إلى باحة العقوق واللاوطنية! أم أنّ تاريخهم النضالي سمح لهم وسمحوا لأنفسهم به أن يفكّروا هكذا تفكيرا ويعزموا على هكذا أمر بقطع النظر عن خطئه من صوابه؟ وبالتالي هل نعتبرهم «خونة» الوطن؟ 
أشكّ في ذلك كثيرا، فيكفيهم ما عانوا آنذاك من هذه اللفظة وأخواتها حتى نتجرّأ على مزيد نعتهم بها، أم أنّهم هنا هم خونة الحبيب بورقيبة بالمفهوم البورقيبي للكلمة؟ هنا ربّما يكون هذا صحيح! ولربّما هذا الوصف هو مدعاة لتفاخر بعضهم به! على كلّ نترك الكلمة للتاريخ للبتّ في هذا الأمر يوما ما إن قدر على ذلك!
مزايا الاطّلاع على الأرشيف الأجنبي إن فُقدت وثائقنا...
وهذا يدفعنا إلى التحدّث عن مصادر أخرى أرشيفية، قد تنيرنا في فهم بعض ما خفي عنّا كتقرير السفير الفرنسي الذي تحصّلنا عليه، والذي ذكرناه آنفا ويميط الستار عن تفاصيل دقيقة حول المحاكمة وما حولها، ممّا يعطي الانطباع بأنّ هذا السفير على اطّلاع كبير بمجريات المحاكمة وخباياها، وتبدو حتّى المعلومات التي يذكرها أحيانا دقيقة بفضل مصادره المعتمدة بالتأكيد، وقد شكّك السفير الفرنسي في الرواية الرسمية المعتمدة للتصغير من شأن المتآمرين وتحقيرهم، بل وذكر حتّى ما ينفيها أحيانا، لكن يَخِزني سؤال مقلق هنا وهو هل سيصبح الأرشيف الأجنبي ملاذّ الباحثين الوحيد عن هذه المسألة في غياب أرشيف هذه الفترة بالذات؟ والذي أرجو مرّة أخرى أن لا يكون قد أُتلف آنذاك كما قيل لي ومنذ عشرين سنة!
وإنّي آمل أن يعمد من كان آنذاك في موقع القرار وحواليه إلى ذكر ما يعرفونه عن هذه المسألة بالتحديد حتى يفيدوننا نحن الجيل الذي لم يعايش هذه الفترة، وحتى -لو قدّر الله!- وكان زعم إتلاف الوثائق حقيقة، تبقى لنا شهاداتهم نضيفها إلى الأرشيف الأجنبي علّنا نتحسّس منهما بعضا ممّا حدث إذّاك، وندرك بهما ما حاول جاهدا أن يخفيه كلّ من ساهم في إتلاف الوثائق زمنئذ.
....كإبرازه الماضي النضالي لعمر البنبلي
في الأثناء، اطّلعت على ملفّ في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية يتحدّث عن عمر البنبلي وحملته المناهضة لفرنسا الاستعمارية في منطقة المشرق العربي، ويفيد هذا الملفّ أنّ البنبلي أسّس مكتب المغرب العربي في القدس ربّما خلال بداية سنة 1953، وقد عرّج البنبلي عليه في محاكمته عندما أشار للمحكمة بأنّ الطيّب سليم من الدستور الجديد هو الذي أشار عليه بذلك، كما حاضر في نابلس عن الوضع في المغرب العربي في بداية سنة 1953 شهّر فيها بشدّة بالسياسة الفرنسية في هذه البلدان، وقد اعتبر قنصل فرنسا في القدس أنّ هذه المحاضرة كانت وراء الإضراب الذي شهدته نابلس احتجاجا على فرنسا، كما كان يكتب مقالات عنيفة في الصحف الفلسطينية ضدّها وضدّ المتعاملين معها من جالية المغرب العربي المقيمة في فلسطين وخاصّة من يهتمّ منها بوقْف أبي مدين المخصّص للمسجد الأقصى ناحية باب المغاربة على الأرجح، الأمر الذي دعا القنصل الفرنسي إلى مراسلة حاكم القدس الأردني والتشكّي منه طالبا تضييق الخناق عليه.
ويقدّمه الفرنسيون في هذا الملفّ على أنّه من حزب الدستور القديم، ونحن لا ندري مدى صحّة هذه المعلومة حاليا، لكن يمكن مقاربتها مع معلومات ذكرها البنبلي في محاكمته ومنها أنّه زيتوني التكوين، وأنّه توجّه إلى مصر منذ سنة 1946 لمواصلة دراسته وأنّه شارك في حرب فلسطين، ومن هنا تعرّف بالتأكيد على الشرايطي وغيره، وأنّه انضمّ إلى الجيش المصري فاللبناني وأنّه منذ سنة 1949 إلى حدّ سنة 1956 يشرف على مكتب المغرب العربي بالقدس، كما أصدر كتابا سنة 1955 تحدّث فيه عن تونس وانتقد اتفاقيات الحكم الذاتي كما انتقدها الدستور القديم وصالح بن يوسف، وهذا هو الأهمّ أنّه تحدّث عن مؤتمر الدستور القديم في سنة 1955 ، فهل كان البنبلي حقيقة محسوبا على الدستور القديم؟ أم كان منضويا تحت الشبيبة الدستورية الجديدة بالقلعة الكبرى قبل سفره إلى مصر وبقي وفيّا لحزبه؟ لكن، حدث له تحوّل ما في الأثناء دفعه إلى الانخراط مع الدستور القديم ربّما!
الأكيد أنّ عمر البنبلي يمتلك ماضيا نضاليا ضدّ فرنسا، حتى وإن شُوّه أثناء محاكمة «المتآمرين» أو أظهره الفرنسيون في وثائقهم بمظهر غير لائق سلوكيا أحيانا، وهو ما يعدّ ربّما شهادة منهم على أنّه بات مصدر قلق إليهم هناك في لبنان وفلسطين أو ما تبقى منها إذّاك.
على كلّ ، لا يمكننا أن نواصل أكثر في مجال الحديث عن عمر البنبلي، وذلك رغبة منّا في التعريج على مظالم أخرى حيقت بتلك الفترة ، فمن المعلوم للكلّ أنّ «المتآمرين» مثلوا أمام المحكمة في جانفي 1963 أو خلال الأشهر القادمة وباتت أسماؤهم معروفة للجميع عندئذ كما يمكن للباحث أن يجدها بين ردهات الصحف وفي تسجيلات الإذاعة، لكن، ما ليس معلوما أيضا وما غُيّب آنذاك وإلى الآن، أنّ تلك الفترة كانت فرصة للبعض للتخلّص من منافسين محتملين بلا محاكمة معتمدا على الطرد التعسّفي بتهمة الشُبُهة وغيرها، مستغلاّ في ذلك حالة الإرباك الكبير التي شهدتها أجهزة الدولة آنذاك إضافة إلى خدماته الكبيرة جدّا خلال فترة «المؤامرة» للكشف عن خباياها لتصفية منافسيه نهائيا. 
وسنأخذ مثلا لذلك وهي: 
مظلمة أحد الآباء المؤسّسين للحرس الوطني: أحمد جبارة: ألم يحن رفعها بعد؟
إنّنا نعني هنا مظلمة متفقّد عام الحرس الوطني آنذاك أحمد جبارة من المهدية وأوّل مسؤول في الحرس الوطني بعد آمر الحرس الوطني المحجوب بن علي الذي استغلّ فوضى المؤامرة لإزاحة جبارة من منصبه وعزله دون تحقيق معه أو محاكمة، وكلّ ما قام به هو إيداعه مصحّة الحرس باعتباره مريضا من 24 ديسمبر 1962 إلى حدّ 19 فيفري 1963، وفي الأثناء أشرف المحجوب بن علي على عمليات استنطاق المعتقلين المدنيين منهم في ثكنة القرجاني بيد من حديد كما عرف عنه، وتمكّن في ظرف قياسي للغاية من «انتزاع» اعترافات المتّهمين!! 
وبعد أن أكمل مهمّته على «أحسن وجه»، التفت إلى منافسه المحتمل في الوظيفة باعتبار تخرّج أحمد جبارة من الكلّية العسكرية بالعراق سنة 1953 برتبة ضابط اختصاص مدفعية، وهو ما يفتقده محجوب بن علي وهذا غير خاف على الكلّ، بالرغم من أنّ أحمد جبارة يعدّ من مؤسّسي الحرس الوطني منذ 1956 وأشرف على تدريب النواتات الأولى منه ، وتخرّج على يديه ستّ دفعات من الضبّاط وشارك في معركة بنزرت يوم 19 جويلية 1961 يرافقه الوكيل محمّد الغضباني، كما درّب متطوّعي معركة بنزرت وجرّب إذّاك تقنية استعمال مدفع الهاون تركي والبازوكا الصينية ولقّنها لغيره من الحرس.
ولم يكن بمقدور المحجوب بن علي وهو الماسك بزمام التحقيقات في قضيّة المؤامرة الأمنية أن يعثر على اعتراف ما من أيّ متّهم حول علاقة ما له مع أحمد جبارة، لذا أشاع لدى كتابة الدولة للداخلية وحتى الدفاع أنّ أحمد جبارة على علم بالمؤامرة لكنّه لم يخبر بها! وذلك كي يتخلّص منه نهائيا واقترح على الطيّب المهيري فصله عن العمل وهذا ما تمّ فعلا بموجب قرار صادر يوم 25 جانفي 1963 بإمضاء الطيّب المهيري والباهي الأدغم أي بعد يوم من إعدام المتآمرين ونجد في حيثيات قرار الفصل أنّه تمّ «بناء على رأي آمر الحرس الوطني».
فلو تفطّن أو بالأحرى لو عثر المحجوب بن علي على دليل يبيّن أنّ أحمد جبارة كان يعلم حقيقةً بالمؤامرة، لما توانى لحظة في إحالته على المحاكمة الأولى مع غيره أو لاحقا، مثلما حدث لعلي القفصي والد المتهم الهادي القفصي الذي نال 10 سنوات أشغال شاقة لا لسبب إلاّ لأنّه علم بالمؤامرة، ولم يخبر بها بالرغم من أنّه دافع عن نفسه بقوله من غير المعقول أن يشيَ والد بابنه، لكنّه نال حصّته من السجن! فما الذي يمنع أحمد جبارة من أن يلقى ذات مصير والد الهادي القفصي إن كان حقيقة على علم بالمؤامرة ولم يخبر بها!
وقد تسنّى لي الاتصال بالمحجوب بن علي مدّة قبل وفاته سنة 1997، وسألته عن دوافع إقالة أحمد جبارة فأجابني بأنّه كان من خيرة الحرس لكنّ ذنبه أنّه علم بالمؤامرة ولم يخبر عنها، لكن، لو كان هذا صحيحا مرّة أخرى فهل أنّ المحجوب بن علي سيتركه يهرب بجلده؟ لا أعتقد ذلك ما دامت «بطولاته» مع المعتقلين آنذاك تغني عن أيّ شيء.
المهمّ أنّ أحمد جبارة طرد من سلك الحرس، وفقد كلّ امتيازاته، وعانى الحرمان والخصاصة، كي يتمكّن في ظروف صعبة للغاية من تربية أبنائه وتعليمهم، وباع كلّ ما يملك هو وزوجته كي يواصل أبناءه دراستهم ولا ينقطعوا عنها، وبقي طوال السنين التي طرد فيها من خدمته ظلما إلى حدّ وفاته في سبتمبر 2000 متحسّرا على إمكانياته في خدمة الوطن التي حرمه منها المحجوب بن علي، وراجيا طيلة حياته أن يُعاد إليه الاعتبار، الاعتبار إلى نفسه أوّلا ولعائلته وكذلك لشرفه العسكري الذي أُهين فيه، فهل من مجيب ومن لفتة إلى روح أحد الآباء المؤسّسين لجهاز الحرس الوطني في بلادنا؟
هل يُكشف النقاب عن أماكن دفن «المتآمرين» حتّى يتسنّى لعائلاتهم الترحّم عليهم؟
وهذا يدفعنا إلى الحديث عن معاناة أهالي هؤلاء «المتآمرين» والذين ذاقوا من المضايقات والحرمان والخصاصة ألوانا! أفلا تكفي «معاقبة» هؤلاء «المتآمرين» من خلال إعدام بعضهم أو حبْس البعض الآخر في ظروف غير إنسانية بالمرّة، كي يرتدع من تسوّل له نفسه «الأمّارة بالسوء» إلى التفكير مرّة أخرى في هكذا عمل «إجرامي»؟ وما ذنب عائلات هؤلاء «المتآمرين» التي عانت الحرمان والخصاصة والمضايقات وخاصّة منها من أعدم والده أو زوجه أو ابنه أو.. حتى يتواصل حرمانها من الوقوف حتّى على قبورهم لتلاوة فاتحة الترحّم على أرواحهم! ألم «يعاقبوا» جزاء «غلطتهم « أو «جرمهم» لا يهمّ اللفظ؟ ألا يكفي أهاليهم حرمانهم منهم وإلى الأبد؟ أم أنّ لا بدّ من تواصل العقاب؟!
وهل لنا أن نطمح، وذكرى عيد الاستقلال على الأبواب التي ضحّى من أجله بعض هؤلاء «المتآمرين»، في تمكين أهالي من نفّذ فيهم حكم الإعدام من رؤية قبور أقربائهم أو إعادة دفن رفاتهم في مقابرهم والترحّم على أرواحهم؟ وقد حزّ في نفسي كثيرا سماع شهادات بعض أقرباء هؤلاء، كما حزّ في نفسي أكثر مصير عائلة الأزهر الشرايطي الثانية في سويسرا، وخاصّة مصير ابنه الأصغر الذي جاء إلى تونس بعد نوفمبر 1987 وزار أهله في قفصة، وكلّه أمل في رؤية قبر والده الذي لا يعرفه إلاّ من خلال والدته، لكن لم يتسنّ له ذلك فرجع إلى سويسرا وشنق نفسه!
فهل من لفتة كريمة تجاه نساء ترمّلت وأطفال تيتّموا وعائلات تفكّكت؟ أم لم يحن الأوان بعد للفتة إنسانية نبيلة كهذه؟!



 بقلم: خالد عبيد

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...