jeudi 10 février 2011

بورقيبة من خلال رسائل سنوات الغليان الأخيرة: 1/2

"إننا اليوم على قاب قوسين من الخاتمةوالمستقبل للحرية لا لاسترقاق البشر، وانتصارالعقل السليم والعدالة قد يكون لأجل بعيد ولكنه سوف يأتي لا محالة...


وسنأخذ نصيبنا منه عن جدارة".الحبيب بورقيبة- رسالة إلى محمد المصمودي
23
ديسمبر 1952.

مطلع الخمسينات من القرن الماضي، شهدت الخارطة العالمية تغيّرات هائلة على جميع المستويات، السياسية منها بالخصوص. وأغلب هذه التغيرات كانت ثمرة ما أفضت إليه الحرب الكونية الثانية من نتائج ومحصّلات.

ومن أهم تلك المتغيرات بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى وكقائد للمعسكر الغربي الرأسمالي، وكمنافس لما كان يسمى آنذاك بالإتحاد السوفياتي، قائد المعسكر الشرقي الاشتراكي. وقد أدى التنافس بين المعسكرين المذكورين المنتصرين في الحرب الكونية الثانية إلى ما سوف يتّفق المؤرخون والخبراء السياسيون على تسميته بـ"الحرب الباردة". مقابل ذلك، أخذت الإمبراطوريات القديمة المتمثلة بالخصوص في كل من فرنسا وبريطانيا، والتي كانت قد استولت بسهولة على بلدان كثيرة في كل من آسيا وإفريقيا، في الانحدار والسقوط. ففي عام 1945، حصلت كل من سوريا ولبنان اللتين كانتا خاضعتين للاستعمار الفرنسي على استقلالهما. وفي عام 1946، فضّلت الولايات المتحدة الأمريكية منح الفيليبين التي كانت قد احتلتها عام 1898، استقلالها.

وبعد كفاح مرير بقيادة الماتهاما غاندي، حصلت الهند على استقلالها، وبدأت الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس في التفتت شيئا فشيئا. وفي عام 1948، حصلت أندونيسيا التي كانت خاضعة للاستعمار الهولندي، على استقلالها.

وأما بلدان "الهند الصينية"، أي فيتنام واللاوس، وكمبوديا، المحتلة من قبل فرنسا، فقد كانت تخوض معارك ضارية سياسية وعسكرية للحصول على استقلالها. وبقيادة الزعيم الشيوعي هوشي منه، تمكنت حركة التحرير الوطنية الفيتنامية من إلحاق هزيمة مرة بالجيش الفرنسي في معركة "ديان بيان فو" الشهيرة وذلك عام 1954.

وفي إيران قام الدكتور مصدق بتأميم شركات البترول وذلك عام 1951. لكن عقب مرور عامين على ذلك، وتحديدا عام 1953، نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في الإطاحة به، وإعادة الشاه المناصر لها إلى الحكم. وفي مصر تمكن "الضباط الأحرار" بقيادة جمال عبد الناصر من إسقاط النظام الملكي، وإقامة ما أصبح يسمى بـ"الجمهورية العربية المتحدة". وفي بلدان المغرب العربي الثلاثة، المغرب والجزائر وتونس، كان الغليان شديدا، ورغم البطش الاستعماري، كانت القوى الوطنية على يقين بأن المعركة الحاسمة من أجل الحصول على الاستقلال، قد باتت وشيكة. في ذلك الوقت كان بورقيبة قد قارب الخمسين من عمره.

وكان قد فرض وجوده كزعيم سياسي كبير لا على المستوى التونسي والمغاربي فحسب، وإنما على المستوى العالمي أيضا. وكانت المعارك الكبيرة والصغيرة التي كان قد خاضها منذ مطلع الثلاثينات وحتى ذلك الحين قد أثبتت ذكاءه ومهارته وبعد نظره وقدرته على المناورة وعلى كسب الانتصارات حتى في أحلك الظروف. كما أثبتت تلك المعارك صلابته ورفضه لكل أشكال التخاذل والخوف والتعلق بالمصالح الشخصية. وبفضل قيادته الرشيدة والحكيمة، أصبح الحزب الحر الدستوري الذي أنشأه في ربيع عام 1934، يتمتع بنفوذ كبير في البلاد، وبات يحظى بأنصار لا من الطبقات الفقيرة والمتوسطة فحسب، بل وأيضا من الأرستقراطية الحاكمة، ومن البورجوازية الوطنية، ومن رجال الدين، ومن أعيان القبائل، ومن النخبة المثقفة الجديدة.

وأمام تصاعد النضال الوطني في كامل أنحاء البلاد، وانطلاق الكفاح المسلح في 18 جانفي/ يناير 1952، اختارت السلطات الاستعمارية الفرنسية الرد بعنف على كل ذلك.

ففي مطلع عام 1952، عينت الحكومة الفرنسية جان دي هوتكلوك المعروف بتشدده مقيما عاما في تونس. وحال وصوله إلى ميناء بنزرت حيث استقبلته كتيبة عسكرية، أعلن أن "سياسة القوة هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على مصالح فرنسا". وتحديا لتصريحاته تلك، اندلعت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، وسقط العديد من القتلى والجرحى. وفي 18 جانفي/ يناير من العام المذكور، داهمت الشرطة الفرنسية بيت الزعيم الحبيب بورقيبة وبيوت العديد من قادة الحزب الآخرين. وفي اليوم ذاته، اقتيد بورقيبة إلى طبرقة في حين أرسل مئات المناضلين الوطنيين إلى سجون ومحتشدات في شمال وجنوب البلاد.

في طبرقة، عومل بورقيبة في البداية بكثير من الاحترام والتقدير. فقد أقام في فندق بأربعة نجوم، وكان يستقبل الزوار ومعهم يتحدث ساعات طويلة في الشؤون الوطنية. وهذا ما فعله مع الهادي نويرة، رفيقه في الكفاح، ومع فرحات حشاد، الزعيم النقابي الكبير. وكان يحب أن يشرب الشاي في فندق "الميموزا" الواقع فوق هضبة خضراء تطل على البحر. وكان يرسل بنصائحه وأوامره إلى محمد المصمودي الذي كان آنذاك في باريس. وبين وقت وآخر، كان يهتف إلى وسيلة بن عمار، حبيبة قلبه، والتي أصبحت تحظى بمكانة خاصة في حياته العاطفية منذ أن تعرف عليها في شهر أفريل/ نيسان 1943 عندما جاءت لتهنئته بمناسبة عودته إلى الوطن بعد خمس سنوات قضاها في المنافي.

وفي مطلع شهر فيفري/ شباط، تمكنت الحركة الوطنية من وضع ملف القضية التونسية أمام الأمم المتحدة عبر كل من صالح بن يوسف ومحمد برده. وكان رد المقيم العام الفرنسي دي هو تكلوك على ذلك، إقالة حكومة محمد شنيق بتهمة التواطؤ مع الحركة الوطنية، ومع الحزب الحر الدستوري، وإرسال كل وزرائها إلى رمادة وتطاوين. وأما بورقيبة فقد تم حرمانه من إقامته المريحة في طبرقة، ونقل إلى رمادة ليلتقي هناك برفاقه في النضال من أمثال الهادي نويرة والهادي شاكر والمنجي سليم وجلولي فارس.

كما التقى هناك بمناضلين شيوعيين يهود متعاطفين مع الحركة الوطنية. ومرتديا بنطلونا عسكريا بلون رمال الصحراء، وواضعا على عينيه نظارات كبيرة كتلك التي يستعملها سواق الدراجات النارية، كان بورقيبة يمضي ساعات طويلة متنقلا في المحتشد الصحراوي، سعيا للحفاظ على لياقته البدنية. ولما عاين أن إجراءاته التعسفية تلك لم تنل من معنويات من أصبح الشعب التونسي يسمّيه بـ"المجاهد الأكبر"، بل زادتها قوة وارتفاعا، قرر دي هو تكلوك عزله عن رفاقه، ونقله إلى "لافاليت" بجزيرة جالطة، الواقعة شمال بنزرت وذلك في شهر ماي /آيار 1952.

كان بورقيبة آنذاك قد تخطى الخمسين من عمره. وكانت الشيخوخة ومتاعبها قد بدأت تلقي بظلالها القاتمة على ملامحه. وهذا ما تثبته الصور القليلة التي أخذت له هناك. ففي واحدة من هذه الصور، نحن نراه واضعا يديه على العكاز الذي كان يستعمله في جولاته اليومية في الجزيرة، وقد استغرق في تفكير عميق ووجهه مجلل بسحابة حزن سوداء. ولا شيء يدل على أنه كان شاعرا بوجود حسن الطبرقي المسلم الوحيد في الجزيرة، والذي كان جالسا بالقرب منه، وكان ينظر إليه بفضول كبير محاولا استكشاف ما كان يدور في خاطره.

وفي أخرى، نحن نراه جالسا على صخرة كان يحب التردد عليها، وقد أمسك بعكازه، وعند قدميه كلبه المحبوب "زورو" الذي لازمه طوال إقامته بالجزيرة. وتكشف بعض الرسائل عن إحساس مر بالشيخوخة ومتاعبها وآلامها. ففي رسالة بعث بها إلى ابنه الذي كان يدرس الحقوق في باريس، كتب يقول بمرارة: "لقد مرت علينا تسعة أشهر لم نلتق فيها، وهذه المدة تساوي تسع سنوات على الأقل في حياتي.

أجل هذه الأشهر القليلة التسعة بالإضافة إلى السنوات التي قضيتها في الكفاح والشواغل والإجهاد، قد أنهكتني كثيرا، ولعل السبب في ذلك هو أنني بحكم السن الذي بلغته قد بدأت أسير نحو الشيخوخة والضعف. ومما لا جدال فيه أن السير نحو الضعف أسرع بكثير من السير نحو الفتوة والقوة".

وفي رسالة أخرى، بتاريخ أفريل/ نيسان 1953، يكتب لابنه بنفس المرارة قائلا: "أتدري أن عواصف الربيع التي كادت هنا أن لا تنقطع، تقضي علي بالبقاء طيلة الأسابيع بدون أخبار وبدون بريد وبدون جرائد. وليكفي أن يتخاذل "هيكلي" شيئا، لتخيم علي غمة حالكة. نعم، أتغلب على غمتي مهما حلت، ولكنها تأكل مني وتزيد في وخط رأسي". وفي رسالة بعث بها إلى وسيلة بورقيبة بتاريخ 20 مارس/آذار 1954، يكتب قائلا: "في هذا الصباح، لم أفكر في السياسة ومشاغلها، فهي تضر بصحتي وتصيب جسدي بالهرم والشيخوخة وستنزعجين عندما ترين شعري وقد أبيض تماما تحت تأثير صدمة تشكيل الوزارة الجديدة". "يقصد وزارة صلاح الدين البكوش التي تشكلت بعد إسقاط حكومة شنيق".

وفي العديد من رسائله يقدم بورقيبة وصفا دقيقا لجزيرة جالطة "التّعساء" مستعرضا المصاعب النفسية والجسدية التي كان يواجهها يوميا تقريبا. ففي الجزيرة المذكورة لم يكن هناك سوى مركز جندرمة فرنسي. وكانت مساحة الغرفة التي خصّصت لإقامته لا تتجاوز الخمسة أمتار. وكان يسكن الجزيرة المعزولة عدد قليل من الإيطاليين.

والمواطن التونسي الوحيد الذي كان بورقيبة على صلة به في الجزيرة هو حسن الطبرقي. وفي جولاته اليومية، كان بورقيبة يصطحب كلبه "زورو" الذي سيموت غما عندما يفارق هو الجزيرة يوم 21 ماي/آيار 1954.

وفي رسالة بعث بها إلى ابنه في شهر جانفي/يناير 1953، يصف بورقيبة جالطة بـ"الجزيرة المنقطعة" ويشير إلى أنه يعيش فيها وقد أصبح "على حالة السندباد وهو في جزيرته يرقب طول اليوم في حيرة عسى أن يظهر "شراع" في الأفق".

ويشتكي بورقيبة من رداءة التنوير والتدفئة ومن مصباح البترول الذي ينشر في الغرفة عند استعماله سحابة من الدخان الخانق. أما الشمعة فهي "أولى وأوفق" بالنسبة إليه. لذا عاد لاستعمالها. مع ذلك، يواسي بورقيبة نفسه، ويكتب لابنه بنبرة المتفائل السعيد قائلا: "لست نادما على إقامتي المريحة السابقة "يقصد إقامته في طبرقة" لأن غرفتي بجالطة الباردة المظلمة هي جنة أخرى وضاءة ودافئة بما أشعته فيها نفس مطمئنة قد أدت ما عليها من الواجب.

وذلك الضياء أسطع من كل ما انتشر في أضواء كهربائية في مدينة النور. وتلك الحرارة أوقع من كل ما جهزت به أفخر فنادقها من أجهزة التدفئة المركزية إلا أن الثبات في وجه القوة الغاشمة والرضى بكل النوائب المادية للتعجيل بتحقيق مثل أعلى رائع قوامه الحرية والتآخي الإنساني لخير دليل على أن المرء قد صار أهلا بالمكانة البشرية الحقة وارتفع على مستوى الحيوان، واحتفظ بنفس من روح الله ذلك حقا جنة الدنيا والآخرة".

وبسبب العواصف الهوجاء التي تشتد بالخصوص في فصل الشتاء، كانت الجزيرة تظل مقطوعة عن العالم لأسابيع عديدة حتى أن القائد العسكري كان يضطر أحيانا لإرسال برقيات استغاثة. وعندئذ تضطر السلطات الاستعمارية لقذف المؤن من الجو!
وفي الجزيرة المعزولة، كان بورقيبة يواظب على مطالعة ما كان يصله من كتب مثل "TUNISIE… ATTENTION !""حذار تونس" للصحافي الفرنسي جان روس، ومختارات للشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوغو في مجلدين، و"تأثير السفر إلى موسكو" لميشال غرادي، و"الانشقاق الكبير" لروبيرهارون، و"L’AFRIQUE DU NORD EN MARCHE" "إفريقيا الشمالية تسير" للمؤرخ الفرنسي شارل اندريه جوليان.

وفي رسالة بعث بها إلى الدكتور الصادق المقدم بتاريخ 16 مارس/آذار 1953، ينصح كل رفاقه في الحزب والنضال بقراءة الكتاب المذكور واصفا إيّاه بـ"الجامع المانع". ويطلب منهم نقله إلى اللغة العربية لتعميم فوائده. ويكتب بورقيبة قائلا: "هذا الكتاب صادر عن فرنساوي له قيمته في فرنسا وفي العالم ويحتوي على حقائق ووثائق رسمية لا يعلمها إلا القليل تضفي ضوءا ساطعا على نوايا فرنسا الاستعمارية في الشمال الإفريقي، وتكشف عن جوهر الخلاف القائم بيننا وبينها.

وهو سيبقى قائما مادامت فرنسا متمسكة بإدماج تونس ومراكش في الكيان الفرنسي أي مَحقهما من الوجود...".

وعند وصوله إلى الجزيرة، أصيب بورقيبة بنزلة صدرية حادة إثر صعوده هضبة صخرية عالية، فتعكرت صحته، وبات يسعل طوال الوقت. مع ذلك ظل محافظا على رباطة جأشه، رافضا شفقة العدو الذي أبعده إلى تلك الجزيرة التي لم يكن قد سمع بوجودها من قبل. وفي رسالة بعث بها إلى المناضلين في محتشد رمادة بتاريخ أوت/آب 1952، كتب بورقيبة يقول: "حقا إنها أيام شديدة قضيتها في غرفتي صابرا صامدا لم يسمع مني العدو كلمة تحسُّر أو استعطاف حتى أني حجّرت على زوجتي الذهاب إلى السفارة لطلب رخصة في زيارتي تاركًا أمر نقلي أو الإفراج عني لمجهود الشعب التونسي النبيل واثقا أن سياسة القمع والإرهاب سوف تفشل قبل أن ينهار جهازي الرئوي الذي أضنته رطوبة الجو وتقلبات الطقس مؤمنا أن هناك من بين قومي من هم أتعس حالا مني سواء الذين زج بهم في غياهب السجون المظلمة يتحملون الضرب والتعذيب والأشغال الشاقة أو من لازالوا في حالة سراح يتحملون مسؤولية العمل ومسؤولية الكفاح المرير الذي يتوقّف على نجاحه نجاح الأمة بأسرها في معركة الحياة أو الموت. أخذ الله بيدهم وأعانهم على أمرهم وجعل التوفيق حليفهم".

ونحن نلمس صلابة موقف بورقيبة، وعدم استسلامه لليأس في كل رسائل جالطة. وحتى عندما يشتد به المرض، ويشرع شبح الموت في الطواف حوله، فإنه- أي بورقيبة- يظل متمسكا بصموده وصبره أمام المحن والتقلبات، وفي رسالة بتاريخ ماي/آيار 1953، كتب واصفا صموده رغم المرض قائلا: "بعد الحادث الذي حدث لي، وهو على كل حال خفيف "التواء فقر الظهر" اضطررت إلى ملازمة الفراش ملازمة أكيدة من جراء خناق كنت أظن أنني في مأمن منه منذ أجريت علي عملية اللوزتين في "بوبيني" سنة 1950.

فما هي إلا بضعة أيام أقضيها في الحمى ليزول الالتهاب تدريجيا. وقد يصحب ذلك شيء من انحطاط الضغط الدموي والدوار والفتور. إن أيام المرض هذه وعلى الأخص العزلة التي أنا فيها أبلت بدني إبلاء ظاهرا محسوسا... ولكن هذه المرة أيضا سوف لا تكون النهاية. نعم هي آتية يوما لا أظنه بعيدا، ويا للأسف، ولذلك استقبل شبح الموت الرهيب بقدم ثابتة وتحد صريح على عادتي، وكما يليق بـ"مجاهد أكبر"، لا يشق له غبار".

وكان بورقيبة يرفض رفضا قاطعا كل تدخل لدى الحكومة الفرنسية لإطلاق سراحه وللتخفيف من معاناته. ولما علم أن وسيلة بن عمار، حبيبة قلبه أمضت على لائحة موجهة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية تطالب بمنحه العفو، وتلتمس له الرحمة، يستولي عليه الغضب ويكتب لها معاتبا قائلا "رسالة بتاريخ 5 ماي/ آيار 1954":"إن هذا الصنيع "أي الإمضاء على اللائحة المذكورة" من جانبك قد صدمني. فأنت لست امرأة عادية "هكة وبرة"، بل أنت وطنية ودستورية ومثلت الحزب في باريس وفي الأمم المتحدة وفي فرنسا. كما أنك عرفت الاضطهاد وعرفت السجون في باجة وبنزرت. ويجب أن تعرفي أني لم أقم إلا بواجبي كوطني ولا يجوز أن أتساوى في الاعتبار مع مجرم يطلب له العفو والرحمة من أي مكان".

وفي الرسائل التي وجهها إليها، حرص بورقيبة على تأكيد حبه لوسيلة بن عمار واجدا فيه "خير سلوان"، بل ووسيلة ناجعة للصمود والصبر. ففي رسالة بتاريخ 22 جانفي/يناير 1952، كتب لها يقول: "أبدأ هذه الرسالة- وفؤادي يخفق وحنجرتي جافة من جراء شعور لذيذ. وهي الأولى بعد صمت طويل وفراق طويل ذقت من أجله الأمرين مما يعجز القلم عن التعبير عنه. إذ كيف استطعت أن أعيش 6 أشهر دون أن أتصل بكلمة منك؟ تلك هي المعجزة، إن إيماني اليقيني بحبك وبأني أتبوأ مكانة مفضلة في سويداء فؤادك هو وحده الذي منحني هذه القوة على الصمود أمام الكوارث".

وفي نفس الرسالة، يواصل بورقيبة كلامه عن حبه لوسيلة قائلا: "رباه! لم هذا الحب العارم؟ لماذا هذه الحواجز المتراكمة بيننا؟ هذه الطريق المسدودة؟ وهذا الحب الذي لن يفل فيه شيء. فلكأن الأقدار أرادت أن تتلاعب بقلبينا الضعيفين وتبين لنا أن لا حول لنا ولا قوة لمواجهة القضاء المبرم". ويصف بورقيبة حبه لوسيلة بأنه "الحب الذي يضيء رحاب الحياة".

وعندما تطلب منه وسيلة تمزيق الرسائل التي وجهتها له حتى لا تنفضح قصة حبهما، يرد عليها بورقيبة في رسالة بتاريخ 5 جانفي/يناير 1953، قائلا: "ترجينني في رسالتك بتاريخ 12، أن أمزق الرسائل. وكان جوابي أن لا حول لي ولا قوة على ذلك "لأن مسوداتك" اللطيفة تدخل علي من الحبور ولها من المكانة في نفسي ما يجعلني غير قادر أبدا على مفارقتها وحتى لئن كتب لها أن تنشر يوما- عندما نغادر هذه الدنيا- فلن يجد فيها الناس إلا تعبيرا عن حب نزيه، نظيف، وصادق، ولن يضرنا ذلك لا في ذاكرة البشر ولا في أعين مواطنينا.

ذلك أن هذا الحب العارم لم يحل بيننا وبين أداء واجبنا إزاء أسرتنا وإزاء وطننا. وهو أهم ما في الأمر". ويشعر بورقيبة بالفخر عندما تعلمه وسيلة بأنها لن تمزق رسائله لأنها درر، ويكتب لها في نفس الرسالة قائلا: "لكن في خصوص رسائلي فأنت تزعمين أنه لا يمكنك تمزيقها لأنها درر رائعة! هذا يدعوني إلى الاعتزاز، لا أعلم هل أن الأجيال القادمة ستزكي رأيك فيها إذ لم أفكر في صوغ درر رائعة عندما حاولت التعبير في صفحات سودت على عجل عن الحب العميق الذي أكنه لك.

ومهما يكن من أمر فرسائلك أيضا هي بالنسبة إلي دريرات رائعة. فرغم تواضع زادك في المعرفة "على حد زعمك أنت"، فإنك تهتدين أحيانا إلى الكلمة الصائبة والمؤثرة أيما تأثير للتعبير عن لطيف المشاعر التي أحس بصدقها".

حسونة المصباحي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...