شكل حوار الوزير الأول، الباجي قائد السبسي الذي أجراه أمس الأول مع الفضائيات التونسية الثلاثة، لحظة فارقة في أداء مسؤول سياسي تونسي في الحكم ، قياسا بالأسلوب الذي كان متبعا خلال حكم الرئيس المخلوع، بل حتى خلال السنوات الأخيرة لحكم الزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة..
فطيلة 25 عاما على الأقل، لم يظهر الوزير الأول في حوار مباشر مع صحفيين، وظلت الوزارة الأولى، احدى الأطر الممنوعة على «السلطة الرابعة»، لأنها تحولت إلى جزء من آليات السياسة البيروقراطية، ورقم اضافي ضمن سجل حسابات التعتيم التي كانت تمارس حينذاك..
صحيح أن الحوار كان معدا سلفا بطريقة ما، ولم تبد على ملامح التساؤلات التي ألقيت على الوزير الأول، ذلك : «النفس الحي» الذي يفترض توفره في الحوارات الصحفية مع شخصيات من هذا الوزن.. لكن ذلك لم يمنع الوزير الأول من «قيادة» الحوار على النحو الذي يرتضيه، في الوقت الذي كان يفترض أن يكون الصحفيون، هم الذين يقودون الحوار، ويتحكمون في درجة حرارته، لذلك كان هذا اللقاء التلفزيوني، أشبه بالاستجواب منه للحوار بمفهومه المهني، ولولا الإجابات المثيرة لرئيس الوزراء، وبعض الرسائل المبطنة التي وجهها في اتجاهات عديدة ومختلفة، لكان الحوار عبارة عن جلسة استفسار، سيما وأن التساؤلات صيغت بأسلوب ودي للغاية، بحيث لم تتضمن استفزازا أو مشاكسة، وكان الباجي قائد السبسي في أريحية تامة طوال الحوار، بل كان يجيب عن أسئلة دون أخرى، من دون أن نرى ذلك الإلحاح الذي يتطلبه الحوار الصحفي، في مثل تلك الوضعية التي توفرت للزملاء في القنوات الثلاثة..أسلوب نقدي
ما يلفت الانتباه في هذا الحوار المتلفز، أن الوزير الأول، استخدم أسلوبا نقديا في التعامل مع بعض المكوّنات السياسية والاجتماعية والدينية.. فاعتبر أن بعض الأحزاب الناشئة حديثا، قد لا تملأ حافلة نقل، في إشارة إلى ضعف المنتمين إليها وتساءل بصيغة إنكارية عن القيادات الحزبية الحالية قائلا: «أين كانت خلال السنوات الماضية؟ ومن أين جاءت؟ سيما وأن الثورة تمت من دون زعامات».. وهي إشارات أثارت حفيظة أحزاب عديدة لم تستسغ هذا الأسلوب في التعامل معها..
واتهم قائد السبسي بعض مكونات الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة، بـ«محاولة تعطيل الانتخابات»، مشددا على تاريخ 24 جويلية لتنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وأكد على أن البلاد لا يمكن أن تنساق خلف «قضايا واهتمامات لا تهم الشعب»، في إشارة إلى أن بعض الخلافات والتباينات موغلة في السياسة، في وقت تئن البلاد تحت وطأة الاقتصاد المعطل وعمليات استضعاف الدولة، والأمن الذي لم يستتب بعد بشكل نهائي. وانتقد الوزير الأول، عمليات الاعتصام التي باتت الاداة الأساسية لمعارضة الحكومة، ومع أنه أقر بشرعية الاعتصام الذي وصفه بـ«المقبول والطيب»، إلا أنه لاحظ أن استمراره بالكيفية الراهنة، لم يعد ممكنا..
وعلى مستوى الساحة الدينية وجه رسالة الى بعض الأطراف التي استبدلت أئمة بآخرين، أو تلك الاطروحات التي تصنف الناس بين الكفر والإيمان، ملاحظا أن الدولة لم تتحرك بهذا الاتجاه، لكنها مطالبة بالحزم ازاء هذه الممارسات في المستقبل، ما يطرح السؤال حول الكيفية التي سيتم بواسطتها معالجة هذا الملف: هل سيستعيد الخيار الأمني موقعه، أم ستكون المعالجة السياسية هي الأقرب لنهج الحكومة؟
الديمقراطية فيها "واو"
اعتمد الباجي قائد السبسي في هذا الحوار، أسلوب «الغمز» في قضايا تمثل اليوم محور حديث الرأي العام التونسي والنخب، على غرار مسألة التمشي الديمقراطي الذي أكد أنه أمر لا جدال فيه، لكنه لاحظ «أن الثورة ليست الديمقراطية»، وهو تمييز هام لأنه يوقظ الوعي بأن استحقاقات الديمقراطية أخطر من الثورة، واعتبر أن استقلال القضاء «شرط للتمشي الديمقراطي»، مشيرا الى أن ديمقراطية بن علي «مغشوشة»، و«فيها واو»، ولم يستبعد إمكانية حرمان رموز التجمع الدستوري المنحل وكوادره من العمل السياسي خلال السنوات القادمة بغاية حماية المسار الديمقراطي من أي ارتداد.
إيقاف"نزيف المطلبية"
ولم يخف الوزير الأول، انزعاجه من المطلبية الاجتماعية والنقابية، وطالب ـ بوضوح شديد ـ بتأجيلها، منتقدا الإضراب الذي ينضبط للقانون أو ما وصفها بـ«الصيغ المعمول بها». وحذر من نسبة النمو التي تتراوح بين 0و%1، ومن نسبة البطالة المرشحة لتراكمات إضافية، ما يعني أن الوضع الاقتصادي «تحت الجينتا» على حد قوله، أي في مأزق كبير.. واعتبر أن الاستثمارات الأجنبية ضرورية لتوفير فرص عمل، لكنه اشترط استتباب الأمن، لأنه في غياب الأمن، لا مجال للحديث عن ديمقراطية أو اقتصاد أو استقرار، على حد قوله.
الشخصية "الكاريزماتية"
ورفض الباجي قائد السبسي بشدة، أن ينازعه أحد في صلاحياته السياسية، قائلا: «لن أقاسم أحدا صلاحياتي»، مشيرا إلى أنه لم يعين أحدا في الهيئة العليا، ولكنه مستعد لتعديل تركيبتها إذا اقتضى الأمر ذلك، وهو بذلك ينفي ما تردد حول مسؤوليته في تعيين عدة شخصيات ممن أثارت انتقادات شديدة في جميع الأوساط تقريبا.. لكنه وضع بذلك سياقا جديدا لأسلوب ادارة الدولة، بشكل يكون فيه الإنصات لمشاغل النخب والطبقة السياسية غير متعارض مع تحمل المسؤولية كاملة في الحكم وفي اتخاذ القرارات السياسية...
المسكوت عنه
على أن حوار السيد الباجي قائد السبسي، يثوي خلفه خطابا مسكوتا عنه، يمكن للمرء أن يتلمسه عبر السطور..
فقد سكت عن الإجابة عن ملفات أمنية شائكة، على غرار القناصة، وما حصل في قصر قرطاج يوم 14 جانفي قبيل هروب الرئيس السابق، وسكت الوزير الأول عن تقييم أداء الحكومة، مثلما تعمد السكوت عن قرارات كانت حكومة السيد محمد الغنوشي اتخذتها، واكتفى بالقول أنه اختار الاستمرار وليس القطيعة مع من سبقه.
ولم يكشف هوية الأطراف والأحزاب التي قال إنها تريد تعطيل الانتخابات ، كما لم يكشف بدقة عن المجموعات التي تدخلت في المساجد لعزل أيمة، رغم أنه قال «أننا نعرفها جيدا".
ولم يوضح قائد السبسي مضمون زيارة وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي وأمريكا وتركيا إلى تونس، واكتفى بالقول بأنهم جاؤوا لتهنئتنا بالثورة، وهو أمر لم يقتنع به المشاهدون، خصوصا وأن اتجاهات الرأي بهذا الشأن تميل الى كون الزيارات هدفت الى ممارسة ضغوط على الحكومة، ونوع من التدخل في الشأن التونسي..
وظلت حيثيات الوضع الحدودي مع ليبيا، محل استفهامات عديدة، بعد أن «فضل» الوزير الأول عدم تقديم الايضاحات والمعلومات التي كان الناس بانتظارها..
وعلى أية حال، فإن هذا الحوار المتلفز، يعد ـ بكل المقاييس ـ قفزة نوعية حقيقية في اعلامنا، ينبغي البناء والتأسيس عليها لكي تتحول الى تقاليد راسخة في علاقة رموز الحكم بالاعلام.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire